تعودت تذكّر المعلمة المميزة مريم نور كلما قرأت شيئا عن المسيح، فقد
ارتبطت هي والمسيح في ذهني بعد قراءتي لكتابها المفضل عندي والذي كان يحمل عنوان"المسيح" أيضا. أما أكثر الإقتباسات التي تذكرني بوجهها النضر هو ذلك
الإقتباس الذي سيبدو محيرا عند الوهلة الأولى، لكننا سنخوض فيه نافضين الحيرة عن
أنفسنا مؤقتا، لنعود محتارين أكثر من أي وقت مضى عند آخر هذا المقال.
قال المسيح: "الحق، الحق أقول لكم. إن لم تقع حبة الحنطة في
الأرض ونمت فإنها تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه
يهلكها".
كنت قد كتبت في تدوينة سابقة حملت عنوان " تطور العلم، لا يعني تطور الخير فقط! ":
"كلما تطور العلم، تطور معه الخير، ولكن ليس الخير وحده هو من
يتطور، بل الشر يتطور مع العلم أيضا، وإذا ما أمعنا النظر فسنرى أن تطور العلم
وحده هو ما يفتح شهية الحكومات والاشرار ليحوزو على القوى الجديدة والفائقة في
العالم كما حدث مع القنبلة النووية وباقي الاسلحة الفتاكة التي أسيئ استخدامها
بطريقة تنبؤ عن خلل رهيب في العقل البشري"
و كتبت في نفس المقالة أيضا:
" منذ فجر التاريخ، يسعى الانسان الى افناء جنسه بنفسه، وامتداد
هذه الرغبة يتم بعثه باستمرار من صفحات التاريخ الى حياتنا اليومية".
لأيام وأنا أتخيل الكرة الأرضية خالية من الأسلحة وكيف أننا نحيى في عالم
تمكن من التخلص من آخر رصاصة فيه. تخيلت هذا بعد أن رأيت كيف أن سوبرمان تمكن من
أخذ آخر رأس نووي الى الفضاء ليضعه في ذلك الكيس الذي جمع فيه كل صواريخ الأمم النووية
ليرميها بعيدا عن مجرتنا. هل فعلا نحتاج إلى الأسلحة لندافع بها عن أنفسنا؟ أم
لنهاجم بها على أعدائنا وكل من لم يعجبنا؟ حدث أن نطق المسيح بدرر عجيبة عندما قال:
"بع رداءك واشتري لك سيفا". واذا ما هم احدنا بأن يأخذ بمعنى نصيحة المسيح، فسيبيع
حاسوبه الثمين الذي يستر جسد جهله الهزيل ليشتري له مسدساً حتى ولو من أرخص
العيارات.
لقد أثارني فراس السواح لمرتين في هذه الليلة الصاخبة والتي كنت أقرأ
من إبتدائها وأنا أستمع إلى موسيقاي الإيقاعية. أثارني في المرة الأولى عندما كتب: "لقد
ظهر الوجود من لجة العماء بالقتل، وظهرت مظاهر الحياة الأولى بالقتل، وبدأت حياة
الإنسان بالقتل، ثم لاحظ الإنسان أن استمرار بقائه يعتمد على القتل."
تفكرت في هذين السطرين لدقيقة أعطيتها كامل حقها من التأمل والحيرة عندما انتهت الكلمات في آخر الصفحة، ثم استكملت قراءتي
متفاجئا ومرتاحا في آن، لكون بداية الصفحة التالية: "فكان اقتطاع الشجرة
بالنسبة اليه قتل، وصيد الحيوانات قتل، وحصد القمح قتل. تستمر الحياة بالقتل،
تتغذى على الموت، والموت فاغر فاه يتغذى على الحياة.... قال تعالى: يخرج الحي من
الميت ويخرج الميت من الحي، وبتجاوزنا للتفاسير التقليدية سنقول أنه يخرج الزرع
الحي من الحب الميت ويخرج الحب الميت من الزرع الحي".
حسنا، هذا لا يعد شيئا مقارنة بإثارة المرة الثانية عندما قرأت بعد
بضع صفحات، كلمات لم أكن أتمنى قراءتها على هذا النحو: "وتم استهلال تاريخ
البشرية بجريمة قتل قابيل لأخيه هابيل" انتهى. وكان وقع هذا -النصف سطر- كالصاعقة
علي!
في هذه المرة أعطيت الاقتباس عشرة دقائق كاملة من التأمل، قمت بعدها
بتشغيل حاسوبي لأدون هذه المقالة ولأتساءل: كيف يجرؤ فراس السواح على صعقي بهكذا
كلمات؟ أنا الشاب الذي يتخيل الأرض محاطة بالسلام الوافر الذي لو وزع على باقي
الأفلاك لكفاها!
أصبحت أدرك تماما أن فكرة السلام التي لاتتوقف عن مراودتي هي فكرة
جميلة في إطارها النظري، ولكنها مستحيلة عملياً. ولنضع في اعتبارنا أن كلمة مستحيل
هي كلمة لا تستطيع أن تحد إنسانا بمفرده، ولكنها تستطيع أن تحد أمة بكاملها، وقضية
السلام ليست قضية فردية، وإنما قضية عالمية، اهتم بها المخرجون والمغنون طوال
العقود الماضية وتحملو القدر الاكبر من المساهمة في تحقيقها وفي بذر بذورها
على الأقل.
مالذي صعقني في مقولة فراس السواح: وتم استهلال تاريخ البشرية بجريمة
قتل؟
حسنا، لقد صعقتني كلمة واحدة فقط، هي كلمة "إستهلال".
هل سبق وأن شاهدت الفيلم المعنون بإسم "Inception"؟ بالنسبة لي أنا أعتبر هذا الفيلم كمحاضرة جامعية
في علم أسميته علم الروعة الغير منقطة، ومخرج سلسلة أفلام باتمان وهذا الفيلم Christopher Nolan هو الرجل الذي ألقاها. أنا أعتبر هذا أحد أعظم الأفلام التي شاهدتها على
الإطلاق لكونه تناول العديد من المفاهيم التي يصعب تناولها في فيلم حتى وإن كان
أمريكياً!
ترجمة اسم الفيلم هو "إستهلال". والإستهلال بحسب فهمي وشرحي
له باختصار، هو السريان.
والسريان يحدث عندما تقوم إمرأة ما بالرقص فجأة في احدى الأعراس وهي
تعلم فقط كيف ستبدأ رقصتها، لكنها لا تملك أدنى فكرة عن كيفية إنهائها لرقصتها.
أنا أخابر هذا في كل مرة أثناء كتابة أي قصة من قصصي، فأحياناً أعلم
كيف سأنهي قصتي، لكنني لا أعلم كيف أبدؤها! وأحيانا أعلم كيف أبدؤها بحبكة راكمت
تصورها على مدى أيام، لكنني لا أعلم كيف سأنهيها، وبسبب تمرسي الذي لا بأس به،
أعلم يقينا بأنني سأبلي حسنا في الكتابة باسترسالٍ وتركيز، لكوني إستهليت كتابة
قصتي بإيماني بالمجهول.
هذا يخابره كل محترف وكل هاوي وكل شغوف، فالسريان لا يعتبر ظاهرة
معقدة كظاهرة التنوير مثلا، الا انه اولى مراحل التنوير الذي هو ليس شيئا غير
الشعور بالنشوة الجنسية من غير ممارسة الجنس. السريان هو سبب كل هذه اللوحات
الفنية الجميلة، وكل إيقاعات الموسيقى التي لا يتكرر إنتاجها، السريان هو سبب
إبداعنا واحتضاننا للمجهول كمصدر لجميع الاحتمالات. السريان، هو السحر الذي يخابره
كل حالم وشغوف مؤمن.
عندما يستهل أحدهم يومه باستحمام لطيف او بتأمل ساكن فوق السرير لبضع
دقائق، أو بفطور أقل ما يقال عنه أنه لذيذ، فسيستمر باقي اليوم على هذا النمط الذي
استهل به.
تصوّر مصارعاً يتوقف وسط نزاله ليقرر أي حركة سيتّخذها الآن! من الحمق
أن يقوم بذلك، لكون استهلاله نشطاً الان، وهو في هذه الحالة لايستطيع غير الاعتماد
على الحالة النفسية التي ابتدأ بها نزاله.
هكذا نحقق أحلامنا في هذه الحياة، بأن نستهل بداية تحقيقها واثقين
مؤمنين بأنها ستتحقق، وستتحقق بعون الله.
عندما تستهل زوجة ما استقبال زوجها العائد من العمل بصدر رحب وبشوق
وقبلة، ستمضي الأمسية بكاملها على هذا النحو لطيفةٌ حتى آخر ثانية فيها. لأن السر
يكمن في الاستهلال.
وبصراحة، أنا لم أكن أعلم عن عدد الأسطر التي أحتاجها لكتابة مقال
كهذا، لكنني أعلم بأنني لن أنهيه قبل أن أرضى عنه، وعلى الرغم من صعوبة ذلك
أحيانا إلا أنني أعلم بأنه سوف ينجز، وسيصبح من الماضي المتراكم في هذه المدونة.
نعود الى صعقتي يا أعزائي لألفت نظركم الى الحادثة التي استهل بها
تاريخ البشرية! لقد استهل تاريخ البشرية بالقتل! نعم بالقتل، ووفقا لنظرية
الاستهلال التي وضعتها، فسنستمر بقتل بعضنا بعضا الى الابد تحقيقا للاستهلال الذي
ابتدأ به تاريخنا! وهذا جد رهيب! إذا كان واقعاً فعلا!
سيتطور العلم وستتطور الأسلحة والمتفجرات ربما الى الابد، لكوننا جنس
يتوق الى القتال والهيمنة من الفترة التي كنا نرتدي فيها جلود الحيونات كملابس،
واعتمدنا وقتها على قمة تكنولوجيا الاسلحة، والتي تمثلت في القوس والسهم. حتى في
ذلك الوقت الذي يعتبر فيه التاريخ هزيلا، كان قويا برغبته الجامحة في إغلاق كتابه
بنفسه. سيلقي أوباما الخطابات السياسية بكل أنفة، وسيلقي خطباؤنا الخطب الدينية
التي تحث على أن يقف المسلم مع أخيه المسلم، وسيقف كل رؤساء العالم بما فيهم
الرؤساء العرب، مكتوفي الأيدي فاغرين أفواههم أمام الوضع في سوريا، لتستمر الحرب
وليستمر رجل مستبد واحد في اصدار الاوامر بالقتل والقصف، ليستمر سريان الاستهلال
المخيف هذا، ربما الى الابد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكنني سأهون علي، لأن المعاناة إذا كانت حاصلة، فمن الأفضل أن
أتقبلها، لكونها لن تزول بمجرد إنكاري لها، أليس كذلك! ولكنني لن أنتظر حتى أمر
بأزمة ساحقة كأزمة السوريين لكي أبيع ردائي وأشتري بثمنه سلاحاً في هكذا عالم لن
يفيد الانتظار فيه أحد. لن أنتظر. لن أنتظر وقتا مناسبا أبدأ فيه استهلال تحقيق
أحلامي. لن أنتظر حبيبة أطلت في انتظار إلتقائي بها. سأبدأ من حيث أنا، وسأكشف عري
جهلي للعالمين معلنا بحثي عن الحقيقة العارية.
بعد أن قررت إهلاك نفسي بنزع لباسي عني، هل سأستمر متفائلا بسذاجة
بعصر السلام كتفاؤل العلماء الذي طال وهم يحاولون فهم طريقة عمل عقل الإله الذي
استهل تاريخ أعقل مخلوقاته، بالقتل! هل أريد بتفاؤلي بعصر السلام أن أثبت لله كم
أنني رجل صالح! هل صحيحة هي نظرية الاستهلال هذه، أم أنها لا تعدو كونها سوى
مقدماتٍ ونتائجَ بلهاء لكاتب في مقتبل حياته التأملية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق