هناك من يرى أنه يستحق تكريما خاص مقابل
ثقافته، لذلك تجده يضمر حبا خاصا للجهلة، إذ بدونهم تصبح ثقافته أمرا تافها متكررا
لا يثير إعجاب أحد. وجعفر، أحد أولئك المثقفين.
استيقظ جعفر مبتهجاً يعتريه الإحساس بالنصر
الذي يأتي بعد هزيمة النوم، فقد إحتلم الليلة الماضية، وهذا مالم يحدث طوال الثلاثة
أشهر الماضية.
كتب جعفر قبل ان ينام على دفتره في ركنه
المقدس في العلية تلك المعادلة التي لطالما أرّقته:
1% = الواقع الذي أعيشه ......... 99%
= اللاواقع الذي لازلت أبحث عنه.
ويبدو أنه توصل الى ذلك اللاواقع الذي لم
يتوقف عن البحث عن حقيقته.
يخبرنا الانجيل ان المسيح اصبح على ماهو
عليه بعد ان قضى سنوات في البحث عن ملكوت الله، ويخبرنا الله في القرآن أنه لا يضيع
أجر من أحسن عملا، وأجر جعفر على بحثه الطويل هي تلك الحقيقة المثيرة التي توصل إليها.
أخيرا، تكلل سعي جعفر بالنجاح، مؤكدا بذلك على أن من يبحث، يجد.
أخيرا، تكلل سعي جعفر بالنجاح، مؤكدا بذلك على أن من يبحث، يجد.
قام جعفر من سريره الذي يحبه وتوجه الى
المطبخ ليحتسي بضع جرعات من زمزم، ثم توجه بعدها الى الحمام ليستحم بسعادة كالعادة،
فلقد كان يجد باستمرار ما يجعله يستحم بسعادة، سواء أكان مصدر تلك السعادة موسيقى أثناء
الاستحمام، أم رواية جديدة انتهى منها في الليلة الماضية، أم كانت صديقة لا يتوقف عن
تخيل نفسه وهو يؤلف نكات لها وهي في أكثر مواقفها إحراجاً.
خرج جعفر من الحمام وهو يأتزر منشفته الوردية
وملتفتا الى تلك الصورة في الصالة، صورة اينشتاين الاحمق وهو يخرج لسانه الكبير لجعفر. قام جعفر بدوره برد التحية لآينشتاين بتحية مثلها مخرجا لسانه الصغير للحظة كان فيها
في منتهى المرح.
تذكر جعفر صديقه اللذي يحبه واللذي أطلق
عليه لقب المثقف، فقد استفزه وأثاره في الليلة الماضية قبل توجهه الى المنزل، حيث تنبأ
بأفكاره وتساؤلاته، وهذا يعتبر من المستحيلات المنطقية بالنسبة لجعفر الذي توقف عن
قراءة كتب تطوير الذات واتجه الى كتب الفلسفة، وقرأ عن فلاسفة ممسوسين لا يؤمنون بالميتافيزيقيات
وينعتون مصدقيها بأصحاب العقول الخرافية.
صدقهم جعفر على مضض، على الرغم من إدراكه
أن كل الأديان مبنية على الميتافيزيقيات، فالملائكة لا ترى لا هي ولا الشياطين، وكثيرة
هي الظواهر التي لانستطيع مخابرتها بحواسنا الخمسة، مثل الحب الذي لا يُرى ولا يُشم
ولايُتذوق ولا يُسمع، وقطعا لم يروي أحد عن أول تجربة له في استشعار جسد الحب بعد ان
ارتمى في أحصانه.
قرأ جعفر عن أولئك الذين ينعتهم الفلاسفة
بأنهم دجالين، وأغلبهم من الشرق الأقصى، والغربيون منهم من الهنود الحمر الذين سكنوا
في أمريكا الجنوبية. أولئك الذين يعيشون في مجتمعات أغرقها الدجل إلى أذنها حيث إدّعوا
أنهم نجحو في تطبيب مرضاهم بأصوات ذبذبات تنبع من قرون فيلة صمموها كآلات موسيقية ينفخ
فيها كالصور، يا إلهي! قرون فيلة! والشرقيون المشعوذون إدّعوا بأنهم خالدين وأنهم يتشافون
حتى اليوم من امراضهم بمجرد الصمت والسكون الذهني والجسدي، وكأن شفاه العقل خلقت لتصمت
ولكي لا تتحدث عن ما يراودها من تساؤلات وأفكار.
تنازل جعفر عن منطقه، واقتنى بعض هذه الكتب
الروحانية وقرأ التاو للاوتزو شخصيا، وإطلع على ملحمة الباهافادجيتا ولم يفهم منها
غير القليل، وعمل بعض أبحاثه عن الهنود الحمر وطريقتهم المثيرة والمنسجمة مع الطبيعة
في العيش، وأدرك أن هدف العلم والروحانية هدف مشترك، ورأى بعينيه التي قرأتا الكثير
أن الفلسفة لا تختلف كثيرا عن الروحانية من ناحية دوافعها النفسية، فكلاهما يشترك في
نقطة البحث عن الحقيقة، ونقطة عميقة على السطر.
ارتدى جعفر ملابسه وقبل ان يخرج من منزله
استغرق دقيقة أمام حاسوبه ليبدأ تحميل الفيلم الذي سيشاهده في سهرة اليوم، ثم توجه
الى مكان عمله. كان يعمل حارسا في احدى المولات التجارية، فشهادته الثانوية لم تشفع
له بوظيفة يطمح بها، ولكنه عمل بهذه الوظيفة فقط ليؤمن مبلغ سكنه الذي يعيش فيه بمفرده،
وليؤمن مبالغ كتب أبحاثه المستمرة من موقع BookDepository.com.
بعد انقضاء الساعات العشر السخيفة في العمل،
توجه جعفر الى منزله وهو يكرر نفس التؤكيد الذي لم يمل منه ابدا: سأكون رجل أعمال،
أو أموت وأنا أحاول أن أكون رجل أعمال. ونطق بعزيمة مصطلحه الجديد الذي إبتكره : Devoloptainment والذي قصد به عبارة التنمية الترفيهية، فهو يتمنى منذ بضعة شهور أن ينفذ
مشروعا يقوم فيه بتحويل مسار التنمية البشرية ليجعلها أكثر ترفيها وأكثر ترسبا في يومياتنا.
في طريق عودته الى المنزل لمح جعفر حبيبه
الذي أطلق عليه لقب المثقف في احدى البقالات، فتحاشاه وتوجه الى البقالة المجاورة ليشتري
بعض التسالي لسهرة اليوم، فهو على وشك مشاهدة فيلم لم يمض على عرضه سوى أسبوع واحد،
وهو فيلم سوبر مان الجديد Man of steel. اشترى حجما عائليا من دوريتوس، وعلبتي زبادي وعلبة
بيبسي من الحجم العائلي ومعطر جو وست شوكولاتات جالكسي ومناديل فاين الناعمة. ثم تذكر
أن لاينسى كرت شحن هاتفه المحمول.
بعد خروجه من البقالة صرخ هشام من فوق احدى
السيارات منبّها جعفر، التفت جعفر مبتسما، فقد ميز الصوت مباشرة لكونه إحدى الأصوات
التي لا تتوقف عن إطرائه لارتقاء مستوى قصصه الجميلة على موقع فيس بوك، دردشى لدقيقة
وهما يمازحى بعضهما، وسأل هشام: متى ستنشر قصتك الجديدة فنحن متشوقون؟ أجاب جعفر: ربما
غدا، فلقد احتلمت بالامس أيها الصعلوك، ويبدو أنني سأكتب قصة مثيرة حول هذا الموضوع.
ضحك هشام من جرأة جعفر: هل ستنشر قصة عن الاحتلام يارجل؟ أجاب جعفر: بالتأكيد. أراك لاحقا
يا عزيزي، وأعطى هشام شوكولاته واحدة لا غير ثم توجه مسرعا الى منزله قبل ان يتسبب
كرمه في وصوله الى المنزل بأكياس فارغة.
ارتدى جعفر البيجامه الخضراء التي يحبها
مع الفنيلا الخربزية الناعمه بعد أن وصل الى منزله، وقام بتفقد تحميل الفيلم الذي بدأه
على حاسوبه قبل خروجه، ووجده قد تم. حسناً. أطفأ جعفر الأنوار، بعد أن عطر الجو برائحة
الورود، وتوجه في الظلمة وهو يهتدي بنور شاشة حاسوبه الى كنبة في غرفته الكبيرة، وقرّب
الطاولة التي وضع عليها الدوريتوس والزبادي، وانسدح على الأريكة وحاسوبه على فخذية،
معلنا عن إبتداء سهرة جديدة.
بدأ فيلم Man of
steel في كوكب كريبتون -وطن سوبرمان- وتسلسلت الاحداث الجميلة التي حبست أنفاس جعفر، الى ان
وصل الى لقطة هي اطول اللقطات التي توقف عندها حتى الان، وهي اللقطة التي كانت:
صعق جعفر! فهذه اللقطة تؤكد على رأيه الذي
تحدث عنه كثيرا، فالافلام تهيئ وعينا لمفاجآت غير متوقعة.
سبق أن شاهد جعفر حلقات من برنامج وثائقي
ثوري إسمه : عبر الثقب الدودي، وفي احدى تلك الحلقات تحدث مقدم البرنامج -مورقان فريمان- عن الفضائيين
وعن احتمالات وجودهم، وتساءل عن كونهم أخيارا أم أشرار مثل زعمائنا السياسيين المدمنين
على الحروب.
هذه القضية هي احدى القضايا التي ابتكر
سوبر مان من اجل حسمها منذ ستينيات القرن الماضي. كان سوبر مان همزة الوصل بين شعبين
هما الفضائيين والارضيين، تماما كما كان مارتن لوثر كينغ همزة الوصل بين الامريكيين
السود والبيض. سوبر مان احدى رموز التعايش الذي لا يصدّق بين فريقين. وكذلك يريد أن
يكون جعفر في بلده الذي ولد فيه ولم ينتمي إليه.
عاد جعفر بذاكرته الى حلمه الذي راوده في
الليلة الماضي والذي جعله يحتلم. كان في حلمه يشعر وكأنه في العالم الواقعي، شعر بأنه
مستيقظ، كان يشعر بجميع حواسه في آن، فقد كان في حلمه مع حبيبته فدوى، الفتاة التي
تعشقه منذ الأزل، والتي كانت مستعدة لتكون معه دائما، سواء أكان ذلك في يقظته أم في
أحلامه، في أكثر خيالاته تفاهة أم في أكثرها جموحا. كان جعفر يقبّل حبيبته فدوى ويداعبها كما لم يداعب رجلٌ إمرأته من قبل، وفجأة، إنتهى شوط التقبيل وانخرطى في شوط آخر من التأوّهات اللذيذه. لقد إتّحد الاثنين على السرير، وكأنهما جسد واحد. كانت فدوى في غمرة سعادتها،
فهي أيضا أدركت في الحلم ما حبس أنفاس جعفر!
عاد جعفر الى الحاضر، والتفت بنظرة
الى ركنه المقدس الذي كتب فيه عن نسب الواقع واللاواقع قبل ان ينام في الليلة الماضية! ثم نطق
وهو مذهول بعبارات تشبه العبارات التي لازلت أمامه على شاشة حاسوبه:
أنت الجواب أيها الاحتلام، نعم أنت الجواب
على سؤال "هل هناك أبعاد أخرى نستطيع مخابرتها بحواسنا وكأننا في العالم الواقعي؟" نعم
هناك أبعاد أخرى، وفي الليلة الماضية، خابرت إحداها بنفسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق