الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

ماذا يعني هذا؟!







عندما تنتهي من كتاب لإستر هكس، ثم تتوجه الى الحديقة العامة في موعد شروق الشمس، ماذا يعني هذا؟!
عندما تكتب وأنت تستمع الى أغنية  We Found Love لـRihanna وتكون خاطرتك معنونة بماذا يعني هذا؟ فماذا يعني هذا؟!
عندما تشعر بالسعادة لكونك كاتباً يعبّر عن ما يجول في خاطره بحريةٍ، فماذا يعني هذا؟!
عندما تزعجك الذبابات وأنت عند أول الصفحة التي تكتب عليها، ثم لم تعد تشعر بالذبابات عندما وصلت الى آخر الصفحة، فماذا يعني هذا؟!
عندما تقترب منك قطة بيضاء ثم تذهب لتتعارك مع قطة سوداء أخرى تحت شجيرة، فماذا يعني هذا؟!
عندما تفوح رائحة العطور من الطفل الذي يشاكس القطط أمامك وأنت تكتب هذه الكلمات، فماذا يعني هذا؟!
عندما تتواجد النساء والأطفال في الحديقة التي اعتدت الكتابة فيها في الصباح، فماذا يعني هذا؟!
عندما تشعر بالسعادة لكونك ترتشف جرعات من زمزم بين الفينة والأخرى، فماذا يعني هذا؟!
عندما تعتقد بأنك عندما تكتب فأنت أسعد إنسان في هذه اللحظة، فماذا يعني هذا؟!
عندما تتنهد وأنت تراقب شابا محتارا في الناحية الأخرى من الحديقة، فماذا يعني هذا؟!

السبت، 14 سبتمبر 2013

إستهلال تاريخ البشرية



 
تعودت تذكّر المعلمة المميزة مريم نور كلما قرأت شيئا عن المسيح، فقد ارتبطت هي والمسيح في ذهني بعد قراءتي لكتابها المفضل عندي والذي كان يحمل عنوان"المسيح" أيضا. أما أكثر الإقتباسات التي تذكرني بوجهها النضر هو ذلك الإقتباس الذي سيبدو محيرا عند الوهلة الأولى، لكننا سنخوض فيه نافضين الحيرة عن أنفسنا مؤقتا، لنعود محتارين أكثر من أي وقت مضى عند آخر هذا المقال.
قال المسيح: "الحق، الحق أقول لكم. إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض ونمت فإنها تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه يهلكها".

كنت قد كتبت في تدوينة سابقة حملت عنوان " تطور العلم، لا يعني تطور الخير فقط! ":
"كلما تطور العلم، تطور معه الخير، ولكن ليس الخير وحده هو من يتطور، بل الشر يتطور مع العلم أيضا، وإذا ما أمعنا النظر فسنرى أن تطور العلم وحده هو ما يفتح شهية الحكومات والاشرار ليحوزو على القوى الجديدة والفائقة في العالم كما حدث مع القنبلة النووية وباقي الاسلحة الفتاكة التي أسيئ استخدامها بطريقة تنبؤ عن خلل رهيب في العقل البشري"

و كتبت في نفس المقالة أيضا:
" منذ فجر التاريخ، يسعى الانسان الى افناء جنسه بنفسه، وامتداد هذه الرغبة يتم بعثه باستمرار من صفحات التاريخ الى حياتنا اليومية".

لأيام وأنا أتخيل الكرة الأرضية خالية من الأسلحة وكيف أننا نحيى في عالم تمكن من التخلص من آخر رصاصة فيه. تخيلت هذا بعد أن رأيت كيف أن سوبرمان تمكن من أخذ آخر رأس نووي الى الفضاء ليضعه في ذلك الكيس الذي جمع فيه كل صواريخ الأمم النووية ليرميها بعيدا عن مجرتنا. هل فعلا نحتاج إلى الأسلحة لندافع بها عن أنفسنا؟ أم لنهاجم بها على أعدائنا وكل من لم يعجبنا؟ حدث أن نطق المسيح بدرر عجيبة عندما قال: "بع رداءك واشتري لك سيفا". واذا ما هم احدنا بأن يأخذ بمعنى نصيحة المسيح، فسيبيع حاسوبه الثمين الذي يستر جسد جهله الهزيل ليشتري له مسدساً حتى ولو من أرخص العيارات. 

لقد أثارني فراس السواح لمرتين في هذه الليلة الصاخبة والتي كنت أقرأ من إبتدائها وأنا أستمع إلى موسيقاي الإيقاعية. أثارني في المرة الأولى عندما كتب: "لقد ظهر الوجود من لجة العماء بالقتل، وظهرت مظاهر الحياة الأولى بالقتل، وبدأت حياة الإنسان بالقتل، ثم لاحظ الإنسان أن استمرار بقائه يعتمد على القتل."

تفكرت في هذين السطرين لدقيقة أعطيتها كامل حقها من التأمل والحيرة عندما انتهت الكلمات في آخر الصفحة، ثم استكملت قراءتي متفاجئا ومرتاحا في آن، لكون بداية الصفحة التالية: "فكان اقتطاع الشجرة بالنسبة اليه قتل، وصيد الحيوانات قتل، وحصد القمح قتل. تستمر الحياة بالقتل، تتغذى على الموت، والموت فاغر فاه يتغذى على الحياة.... قال تعالى: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبتجاوزنا للتفاسير التقليدية سنقول أنه يخرج الزرع الحي من الحب الميت ويخرج الحب الميت من الزرع الحي".

حسنا، هذا لا يعد شيئا مقارنة بإثارة المرة الثانية عندما قرأت بعد بضع صفحات، كلمات لم أكن أتمنى قراءتها على هذا النحو: "وتم استهلال تاريخ البشرية بجريمة قتل قابيل لأخيه هابيل" انتهى. وكان وقع هذا -النصف سطر- كالصاعقة علي! 

في هذه المرة أعطيت الاقتباس عشرة دقائق كاملة من التأمل، قمت بعدها بتشغيل حاسوبي لأدون هذه المقالة ولأتساءل: كيف يجرؤ فراس السواح على صعقي بهكذا كلمات؟ أنا الشاب الذي يتخيل الأرض محاطة بالسلام الوافر الذي لو وزع على باقي الأفلاك لكفاها!
أصبحت أدرك تماما أن فكرة السلام التي لاتتوقف عن مراودتي هي فكرة جميلة في إطارها النظري، ولكنها مستحيلة عملياً. ولنضع في اعتبارنا أن كلمة مستحيل هي كلمة لا تستطيع أن تحد إنسانا بمفرده، ولكنها تستطيع أن تحد أمة بكاملها، وقضية السلام ليست قضية فردية، وإنما قضية عالمية، اهتم بها المخرجون والمغنون طوال العقود الماضية وتحملو القدر الاكبر من المساهمة في تحقيقها وفي بذر بذورها على الأقل. 

مالذي صعقني في مقولة فراس السواح: وتم استهلال تاريخ البشرية بجريمة قتل؟
حسنا، لقد صعقتني كلمة واحدة فقط، هي كلمة "إستهلال". 




هل سبق وأن شاهدت الفيلم المعنون بإسم "Inception"؟ بالنسبة لي أنا أعتبر هذا الفيلم كمحاضرة جامعية في علم أسميته علم الروعة الغير منقطة، ومخرج سلسلة أفلام باتمان وهذا الفيلم Christopher Nolan هو الرجل الذي ألقاها. أنا أعتبر هذا أحد أعظم الأفلام التي شاهدتها على الإطلاق لكونه تناول العديد من المفاهيم التي يصعب تناولها في فيلم حتى وإن كان أمريكياً! 

ترجمة اسم الفيلم هو "إستهلال". والإستهلال بحسب فهمي وشرحي له باختصار، هو السريان.
والسريان يحدث عندما تقوم إمرأة ما بالرقص فجأة في احدى الأعراس وهي تعلم فقط كيف ستبدأ رقصتها، لكنها لا تملك أدنى فكرة عن كيفية إنهائها لرقصتها.



أنا أخابر هذا في كل مرة أثناء كتابة أي قصة من قصصي، فأحياناً أعلم كيف سأنهي قصتي، لكنني لا أعلم كيف أبدؤها! وأحيانا أعلم كيف أبدؤها بحبكة راكمت تصورها على مدى أيام، لكنني لا أعلم كيف سأنهيها، وبسبب تمرسي الذي لا بأس به، أعلم يقينا بأنني سأبلي حسنا في الكتابة باسترسالٍ وتركيز، لكوني إستهليت كتابة قصتي بإيماني بالمجهول. 

هذا يخابره كل محترف وكل هاوي وكل شغوف، فالسريان لا يعتبر ظاهرة معقدة كظاهرة التنوير مثلا، الا انه اولى مراحل التنوير الذي هو ليس شيئا غير الشعور بالنشوة الجنسية من غير ممارسة الجنس. السريان هو سبب كل هذه اللوحات الفنية الجميلة، وكل إيقاعات الموسيقى التي لا يتكرر إنتاجها، السريان هو سبب إبداعنا واحتضاننا للمجهول كمصدر لجميع الاحتمالات. السريان، هو السحر الذي يخابره كل حالم وشغوف مؤمن. 

عندما يستهل أحدهم يومه باستحمام لطيف او بتأمل ساكن فوق السرير لبضع دقائق، أو بفطور أقل ما يقال عنه أنه لذيذ، فسيستمر باقي اليوم على هذا النمط الذي استهل به. 
 تصوّر مصارعاً يتوقف وسط نزاله ليقرر أي حركة سيتّخذها الآن! من الحمق أن يقوم بذلك، لكون استهلاله نشطاً الان، وهو في هذه الحالة لايستطيع غير الاعتماد على الحالة النفسية التي ابتدأ بها نزاله.
 هكذا نحقق أحلامنا في هذه الحياة، بأن نستهل بداية تحقيقها واثقين مؤمنين بأنها ستتحقق، وستتحقق بعون الله. 
  عندما تستهل زوجة ما استقبال زوجها العائد من العمل بصدر رحب وبشوق وقبلة، ستمضي الأمسية بكاملها على هذا النحو لطيفةٌ حتى آخر ثانية فيها. لأن السر يكمن في الاستهلال. 

وبصراحة، أنا لم أكن أعلم عن عدد الأسطر التي أحتاجها لكتابة مقال كهذا، لكنني أعلم بأنني لن أنهيه قبل أن أرضى عنه، وعلى الرغم من صعوبة ذلك أحيانا إلا أنني أعلم بأنه سوف ينجز، وسيصبح من الماضي المتراكم في هذه المدونة. 


نعود الى صعقتي يا أعزائي لألفت نظركم الى الحادثة التي استهل بها تاريخ البشرية! لقد استهل تاريخ البشرية بالقتل! نعم بالقتل، ووفقا لنظرية الاستهلال التي وضعتها، فسنستمر بقتل بعضنا بعضا الى الابد تحقيقا للاستهلال الذي ابتدأ به تاريخنا! وهذا جد رهيب! إذا كان واقعاً فعلا! 

سيتطور العلم وستتطور الأسلحة والمتفجرات ربما الى الابد، لكوننا جنس يتوق الى القتال والهيمنة من الفترة التي كنا نرتدي فيها جلود الحيونات كملابس، واعتمدنا وقتها على قمة تكنولوجيا الاسلحة، والتي تمثلت في القوس والسهم. حتى في ذلك الوقت الذي يعتبر فيه التاريخ هزيلا، كان قويا برغبته الجامحة في إغلاق كتابه بنفسه. سيلقي أوباما الخطابات السياسية بكل أنفة، وسيلقي خطباؤنا الخطب الدينية التي تحث على أن يقف المسلم مع أخيه المسلم، وسيقف كل رؤساء العالم بما فيهم الرؤساء العرب، مكتوفي الأيدي فاغرين أفواههم أمام الوضع في سوريا، لتستمر الحرب وليستمر رجل مستبد واحد في اصدار الاوامر بالقتل والقصف، ليستمر سريان الاستهلال المخيف هذا، ربما الى الابد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

لكنني سأهون علي، لأن المعاناة إذا كانت حاصلة، فمن الأفضل أن أتقبلها، لكونها لن تزول بمجرد إنكاري لها، أليس كذلك! ولكنني لن أنتظر حتى أمر بأزمة ساحقة كأزمة السوريين لكي أبيع ردائي وأشتري بثمنه سلاحاً في هكذا عالم لن يفيد الانتظار فيه أحد. لن أنتظر. لن أنتظر وقتا مناسبا أبدأ فيه استهلال تحقيق أحلامي. لن أنتظر حبيبة أطلت في انتظار إلتقائي بها. سأبدأ من حيث أنا، وسأكشف عري جهلي للعالمين معلنا بحثي عن الحقيقة العارية. 

بعد أن قررت إهلاك نفسي بنزع لباسي عني، هل سأستمر متفائلا بسذاجة بعصر السلام كتفاؤل العلماء الذي طال وهم يحاولون فهم طريقة عمل عقل الإله الذي استهل تاريخ أعقل مخلوقاته، بالقتل! هل أريد بتفاؤلي بعصر السلام أن أثبت لله كم أنني رجل صالح! هل صحيحة هي نظرية الاستهلال هذه، أم أنها لا تعدو كونها سوى مقدماتٍ ونتائجَ بلهاء لكاتب في مقتبل حياته التأملية! 

الأحد، 1 سبتمبر 2013

المثقف الوحيد. جعفر والإحتلام (2)



هناك من يرى أنه يستحق تكريما خاص مقابل ثقافته، لذلك تجده يضمر حبا خاصا للجهلة، إذ بدونهم تصبح ثقافته أمرا تافها متكررا لا يثير إعجاب أحد. وجعفر، أحد أولئك المثقفين.

استيقظ جعفر مبتهجاً يعتريه الإحساس بالنصر الذي يأتي بعد هزيمة النوم، فقد إحتلم الليلة الماضية، وهذا مالم يحدث طوال الثلاثة أشهر الماضية. 

كتب جعفر قبل ان ينام على دفتره في ركنه المقدس في العلية تلك المعادلة التي لطالما أرّقته:
1% = الواقع الذي أعيشه ......... 99% = اللاواقع الذي لازلت أبحث عنه.
ويبدو أنه توصل الى ذلك اللاواقع الذي لم يتوقف عن البحث عن حقيقته. 

يخبرنا الانجيل ان المسيح اصبح على ماهو عليه بعد ان قضى سنوات في البحث عن ملكوت الله، ويخبرنا الله في القرآن أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأجر جعفر على بحثه الطويل هي تلك الحقيقة المثيرة التي توصل إليها.
أخيرا، تكلل سعي جعفر بالنجاح، مؤكدا بذلك على أن من يبحث، يجد.

قام جعفر من سريره الذي يحبه وتوجه الى المطبخ ليحتسي بضع جرعات من زمزم، ثم توجه بعدها الى الحمام ليستحم بسعادة كالعادة، فلقد كان يجد باستمرار ما يجعله يستحم بسعادة، سواء أكان مصدر تلك السعادة موسيقى أثناء الاستحمام، أم رواية جديدة انتهى منها في الليلة الماضية، أم كانت صديقة لا يتوقف عن تخيل نفسه وهو يؤلف نكات لها وهي في أكثر مواقفها إحراجاً. 

خرج جعفر من الحمام وهو يأتزر منشفته الوردية وملتفتا الى تلك الصورة في الصالة، صورة اينشتاين الاحمق وهو يخرج لسانه الكبير لجعفر. قام جعفر بدوره برد التحية لآينشتاين بتحية مثلها مخرجا لسانه الصغير للحظة كان فيها في منتهى المرح.
تذكر جعفر صديقه اللذي يحبه واللذي أطلق عليه لقب المثقف، فقد استفزه وأثاره في الليلة الماضية قبل توجهه الى المنزل، حيث تنبأ بأفكاره وتساؤلاته، وهذا يعتبر من المستحيلات المنطقية بالنسبة لجعفر الذي توقف عن قراءة كتب تطوير الذات واتجه الى كتب الفلسفة، وقرأ عن فلاسفة ممسوسين لا يؤمنون بالميتافيزيقيات وينعتون مصدقيها بأصحاب العقول الخرافية. 

صدقهم جعفر على مضض، على الرغم من إدراكه أن كل الأديان مبنية على الميتافيزيقيات، فالملائكة لا ترى لا هي ولا الشياطين، وكثيرة هي الظواهر التي لانستطيع مخابرتها بحواسنا الخمسة، مثل الحب الذي لا يُرى ولا يُشم ولايُتذوق ولا يُسمع، وقطعا لم يروي أحد عن أول تجربة له في استشعار جسد الحب بعد ان ارتمى في أحصانه. 

قرأ جعفر عن أولئك الذين ينعتهم الفلاسفة بأنهم دجالين، وأغلبهم من الشرق الأقصى، والغربيون منهم من الهنود الحمر الذين سكنوا في أمريكا الجنوبية. أولئك الذين يعيشون في مجتمعات أغرقها الدجل إلى أذنها حيث إدّعوا أنهم نجحو في تطبيب مرضاهم بأصوات ذبذبات تنبع من قرون فيلة صمموها كآلات موسيقية ينفخ فيها كالصور، يا إلهي! قرون فيلة! والشرقيون المشعوذون إدّعوا بأنهم خالدين وأنهم يتشافون حتى اليوم من امراضهم بمجرد الصمت والسكون الذهني والجسدي، وكأن شفاه العقل خلقت لتصمت ولكي لا تتحدث عن ما يراودها من تساؤلات وأفكار. 

تنازل جعفر عن منطقه، واقتنى بعض هذه الكتب الروحانية وقرأ التاو للاوتزو شخصيا، وإطلع على ملحمة الباهافادجيتا ولم يفهم منها غير القليل، وعمل بعض أبحاثه عن الهنود الحمر وطريقتهم المثيرة والمنسجمة مع الطبيعة في العيش، وأدرك أن هدف العلم والروحانية هدف مشترك، ورأى بعينيه التي قرأتا الكثير أن الفلسفة لا تختلف كثيرا عن الروحانية من ناحية دوافعها النفسية، فكلاهما يشترك في نقطة البحث عن الحقيقة، ونقطة عميقة على السطر. 

ارتدى جعفر ملابسه وقبل ان يخرج من منزله استغرق دقيقة أمام حاسوبه ليبدأ تحميل الفيلم الذي سيشاهده في سهرة اليوم، ثم توجه الى مكان عمله. كان يعمل حارسا في احدى المولات التجارية، فشهادته الثانوية لم تشفع له بوظيفة يطمح بها، ولكنه عمل بهذه الوظيفة فقط ليؤمن مبلغ سكنه الذي يعيش فيه بمفرده، وليؤمن مبالغ كتب أبحاثه المستمرة من موقع BookDepository.com.

بعد انقضاء الساعات العشر السخيفة في العمل، توجه جعفر الى منزله وهو يكرر نفس التؤكيد الذي لم يمل منه ابدا: سأكون رجل أعمال، أو أموت وأنا أحاول أن أكون رجل أعمال. ونطق بعزيمة مصطلحه الجديد الذي إبتكره : Devoloptainment والذي قصد به عبارة التنمية الترفيهية، فهو يتمنى منذ بضعة شهور أن ينفذ مشروعا يقوم فيه بتحويل مسار التنمية البشرية ليجعلها أكثر ترفيها وأكثر ترسبا في يومياتنا. 

في طريق عودته الى المنزل لمح جعفر حبيبه الذي أطلق عليه لقب المثقف في احدى البقالات، فتحاشاه وتوجه الى البقالة المجاورة ليشتري بعض التسالي لسهرة اليوم، فهو على وشك مشاهدة فيلم لم يمض على عرضه سوى أسبوع واحد، وهو فيلم سوبر مان الجديد Man of steel. اشترى حجما عائليا من دوريتوس، وعلبتي زبادي وعلبة بيبسي من الحجم العائلي ومعطر جو وست شوكولاتات جالكسي ومناديل فاين الناعمة. ثم تذكر أن لاينسى كرت شحن هاتفه المحمول. 

بعد خروجه من البقالة صرخ هشام من فوق احدى السيارات منبّها جعفر، التفت جعفر مبتسما، فقد ميز الصوت مباشرة لكونه إحدى الأصوات التي لا تتوقف عن إطرائه لارتقاء مستوى قصصه الجميلة على موقع فيس بوك، دردشى لدقيقة وهما يمازحى بعضهما، وسأل هشام: متى ستنشر قصتك الجديدة فنحن متشوقون؟ أجاب جعفر: ربما غدا، فلقد احتلمت بالامس أيها الصعلوك، ويبدو أنني سأكتب قصة مثيرة حول هذا الموضوع. ضحك هشام من جرأة جعفر: هل ستنشر قصة عن الاحتلام يارجل؟ أجاب جعفر: بالتأكيد. أراك لاحقا يا عزيزي، وأعطى هشام شوكولاته واحدة لا غير ثم توجه مسرعا الى منزله قبل ان يتسبب كرمه في وصوله الى المنزل بأكياس فارغة. 

ارتدى جعفر البيجامه الخضراء التي يحبها مع الفنيلا الخربزية الناعمه بعد أن وصل الى منزله، وقام بتفقد تحميل الفيلم الذي بدأه على حاسوبه قبل خروجه، ووجده قد تم. حسناً. أطفأ جعفر الأنوار، بعد أن عطر الجو برائحة الورود، وتوجه في الظلمة وهو يهتدي بنور شاشة حاسوبه الى كنبة في غرفته الكبيرة، وقرّب الطاولة التي وضع عليها الدوريتوس والزبادي، وانسدح على الأريكة وحاسوبه على فخذية، معلنا عن إبتداء سهرة جديدة. 

بدأ فيلم Man of steel في كوكب كريبتون -وطن سوبرمان- وتسلسلت الاحداث الجميلة التي حبست أنفاس جعفر، الى ان وصل الى لقطة هي اطول اللقطات التي توقف عندها حتى الان، وهي اللقطة التي كانت:



صعق جعفر! فهذه اللقطة تؤكد على رأيه الذي تحدث عنه كثيرا، فالافلام تهيئ وعينا لمفاجآت غير متوقعة.
سبق أن شاهد جعفر حلقات من برنامج وثائقي ثوري إسمه : عبر الثقب الدودي، وفي احدى تلك الحلقات تحدث مقدم البرنامج -مورقان فريمان- عن الفضائيين وعن احتمالات وجودهم، وتساءل عن كونهم أخيارا أم أشرار مثل زعمائنا السياسيين المدمنين على الحروب.
هذه القضية هي احدى القضايا التي ابتكر سوبر مان من اجل حسمها منذ ستينيات القرن الماضي. كان سوبر مان همزة الوصل بين شعبين هما الفضائيين والارضيين، تماما كما كان مارتن لوثر كينغ همزة الوصل بين الامريكيين السود والبيض. سوبر مان احدى رموز التعايش الذي لا يصدّق بين فريقين. وكذلك يريد أن يكون جعفر في بلده الذي ولد فيه ولم ينتمي إليه. 

عاد جعفر بذاكرته الى حلمه الذي راوده في الليلة الماضي والذي جعله يحتلم. كان في حلمه يشعر وكأنه في العالم الواقعي، شعر بأنه مستيقظ، كان يشعر بجميع حواسه في آن، فقد كان في حلمه مع حبيبته فدوى، الفتاة التي تعشقه منذ الأزل، والتي كانت مستعدة لتكون معه دائما، سواء أكان ذلك في يقظته أم في أحلامه، في أكثر خيالاته تفاهة أم في أكثرها جموحا. كان جعفر يقبّل حبيبته فدوى ويداعبها كما لم يداعب رجلٌ إمرأته من قبل، وفجأة، إنتهى شوط التقبيل وانخرطى في شوط آخر من التأوّهات اللذيذه. لقد إتّحد الاثنين على السرير، وكأنهما جسد واحد. كانت فدوى في غمرة سعادتها، فهي أيضا أدركت في الحلم ما حبس أنفاس جعفر!

عاد جعفر الى الحاضر، والتفت بنظرة الى ركنه المقدس الذي كتب فيه عن نسب الواقع واللاواقع قبل ان ينام في الليلة الماضية! ثم نطق وهو مذهول بعبارات تشبه العبارات التي لازلت أمامه على شاشة حاسوبه: 

أنت الجواب أيها الاحتلام، نعم أنت الجواب على سؤال "هل هناك أبعاد أخرى نستطيع مخابرتها بحواسنا وكأننا في العالم الواقعي؟" نعم هناك أبعاد أخرى، وفي الليلة الماضية، خابرت إحداها بنفسي.